التخطي إلى المحتوى
محتويات

سورة الكهف تفسير ابن كثير , تفسير ابن كثير لسوره الكهف , تفسير ابن كثير الرائع
سورة الكهف تفسير ابن كثير , تفسير ابن كثير لسوره الكهف , تفسير ابن كثير الرائع
سورة الكهف تفسير ابن كثير , تفسير ابن كثير لسوره الكهف , تفسير ابن كثير الرائع

اهلا ومرحبا بكم اعضاء وزوار منتديات حنين الحب الكرام اقدم لكم موضوعى بعنوان سورة الكهف تفسير ابن كثير , تفسير ابن كثير لسوره الكهف , تفسير ابن كثير الرائع

سورة الكهف

“ذكر ما ورد في فضلها وأنها عصمة من الدجال”

عن أبي الدرداء، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: “من حفظ عشر آيات من أول سورةالكهف عصم من الدجال” (رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي)، طريق أخرى: قال الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: “من قرأ العشر الأواخر من سورةالكهف عصم من فتنة الدجال”. ورواه مسلم أيضاً والنسائي، وفي لفظ النسائي: “من قرأ عشر آيات من الكهف” فذكره. حديث آخر: عن ثوبان، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “من قرأ العشر الأواخر من سورةالكهف فإنه عصمة له من الدجال” (أخرجه النسائي في سننه) .

بسم اللّه الرحمن الرحيم.

1 – الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا

– 2 – قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا

– 3 – ماكثين فيه أبدا

– 4 – وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا

– 5 – ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا قد تقدم في أول التفسير، أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة، عند فواتح الأمور وخواتمها على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم، محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، فإنه أعظم نعمة أنعمها اللّه على أهل الأرض، إذا أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحاً بيناً جلياً، نذيراً للكافرين بشيراً للمؤمنين، ولهذا قال: {ولم يجعل له عوجا} أي لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا زيغاً ولا ميلاً، بل جعله معتدلاً مستقيماً، ولهذا قال: {قيما} أي مستقيماً، {لينذر بأسا شديدا من لدنه} أي لمن خالفه وكذبه، ولم يؤمن به، ينذره بأساً شديداً عقوبة عاجلة في الدنيا، وآجلة في الأخرى، {من لدنه} أي من عند اللّه، {ويبشر المؤمنين} أي بهذا القرآن، الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح {أن لهم أجرا حسنا} أي مثوبة عند اللّه جميلة، {ماكثين فيه} في ثوابهم عند اللّه، وهو الجنة، خالدين فيه {أبدا} دائماً، لا زوال له ولا انقضاء، وقوله: {وينذر الذين قالوا اتخذ اللّه ولدا} قال ابن إسحاق: وهم مشركو العرب، في قولهم نحن نعبد الملائكة، وهم بنات اللّه {ما لهم به من علم}، أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه، {ولا لآبائهم} أي لأسلافهم، {كبرت كلمة} كبرت كلمتهم هذه، وفي هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم، ولهذا قال: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل عليها إلا

كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال: {إن يقولون إلا كذبا}.

وقد ذكر محمد بن إسحاق في سبب نزول هذه السورة الكريمة عن ابن عباس قال: بعثت قريش (النضر بن الحارث) و (عتبة بن أبي معيط) إلى أحبار يهود بالمدينة:، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالوا: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل مقتول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور؛ فأخبروهم بها، فجاءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا محمد! لأخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “أخبركم غداً عما سألتم عنه”، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث اللّه له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة، قد أصحبنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من اللّه عزَّ وجلَّ بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من خبر الفتية والرجل والطواف، وقول اللّه عزَّ وجلَّ {يسألونك عن الروح؟ قل الروح} الآية.

6 – فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا

– 7 – إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا

– 8 – وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا

يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات اللّه وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، كما قال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}، وقال: {ولا تحزن عليهم}، وقال: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}، باخع: أي مهلك نفسك بحزنك عليهم، ولهذا قال: {فعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} (أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام في نفر من قريش، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من الفضيلة، فأحزنه حزناً شديداً، فأنزل اللّه: {فعلك باخع نفسك على آثارهم} الآية) يعني القرآن، {أسفا} يقول: لا تهلك

نفسك أسفاً، قال قتادة: قاتلٌ نفسك غضباً وحزناً عليهم. وقال مجاهد: جزعاً، والمعنى متقارب أي: لا تأسف عليهم بل أبلغهم رسالة اللّه فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا داراً فانية مزينة بزينة زائلة، وإنما جعلها دار اختيار لا دار قرار، فقال: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لهم لنبلوهم أيهم أحسن عملا}. عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “إن الدنيا حلوة خضرة وإن اللّه مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء”. ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وذهابها، وخرابها، فقال تعالى: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا} أي وإنا لمصيّروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكاً {صعيدا جرزا} لا ينبت ولا ينتفع به، كما قال ابن عباس: يهلك كل شيء عليها ويبيد، وقال مجاهد {صعيدا جرزا} بلقعاً. وقال قتادة: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. وقال ابن زيد: الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى إلى قوله تعالى: أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون}؟.

9 – أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا

– 10 – إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا

– 11 – فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا

– 12 – ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا

هذا إخبار من اللّه تعالى عن قصة أصحاب الكهف {أم حسبت} يعني يا محمد {أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا} أي ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السماوات والأرض وتسخير الشمس والقمر وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة اللّه تعالى؛ وأنه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شيء – أعجب من أخبار أصحاب الكهف، كما قال مجاهد: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك، وقال ابن عباس: الذي آتيتك من العلم والسنّة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم، وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم، وأما الكهف: فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم: فقال ابن عباس: هو واد قريب من أيلة. وقال الضحّاك: أما الكهف فهو غار الوادي، والرقيم اسم الوادي، وقال مجاهد: الرقيم كتاب بنيانهم، ويقول بعضهم هو الوادي الذي فيه كهفهم. وقال ابن عباس: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف. وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرقيم الكتاب، ثم قرأ {كتاب مرقوم} وهذا هو الظاهر من الآية وهو اختيار ابن جرير، قال الرقيم بمعنى مرقوم، كما يقال للمقتول قتيل وللمجروح جريح، واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا} يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من اللّه تعالى رحمته ولطفه بهم: {ربنا آتنا من لدنك رحمة} أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا، {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} أي اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: “وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً”. وفي المسند عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يدعو: “اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي النار وعذاب الآخرة”، وقوله: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة {ثم بعثناهم} أي من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين} أي المختلفين فيهم {أحصى لما لبثوا أمدا} قيل: عدداً، وقيل: غاية.

13 – نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى

– 14 – وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا

– 15 – هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا

– 16 – وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا

من ههنا شرع في بسط القصة وشرحها، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين للّه تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم شباباً. وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً. وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة، يعني الحلق، فألهمهم اللّه رشدهم، وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم، أي اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو، {وزدناهم هدى} استدل بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى: {وزدناهم هدى}، كما قال: {والذين اهتدوا زادهم هدى تقواهم}، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض} يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها، وكان لها ملك جبار عنيد يقال له (دقيانوس) وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه

قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا للّه الذي خلق السماوات والأرض؛ فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز عنهم، واتخذوا لهم معبداً يعبدون اللّه فيه، فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى اللّه عزَّ وجلَّ، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: {وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها} و”لن” لنفي التأبيد: أي لا يقع منا هذا أبداً لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم: {لقد قلنا إذا شططا} أي باطلاً وكذباً وبهتاناً، {هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين} أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً، {فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا}، يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال إن ملكهم تهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم وأجلّهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا لطف اللّه بهم فإنهم توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه كما جاء في الحديث: “يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن” (الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سعيد)، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع، فلما عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار اللّه تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا اللّه}: أي وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير اللّه، ففارقوهم أيضاً بأبدانكم، {فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته}: أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم {ويهيىء لكم من أمركم} الذي أنتم فيه، {مرفقا} أي أمراً ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هرباً إلى الكهف، فأووا إليه ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك، فيقال إنه لم يظفر بهم، وعمّى اللّه عليه خبرهم كما فعل بنبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم وصاحبه الصدّيق حين لجآ إلى (غار ثور).

17 – وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا

أخبر تعالى أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه {ذات اليمين}، قال ابن عباس {تزاور}: أي تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال: {وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب. وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً؛ ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه وللّه الحمد. وقال ابن عباس ومجاهد: {تقرضهم} تتركهم، وقد أخبر اللّه تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا اللّه تعالى ورسوله إليه، فقد قال صلى اللّه عليه وسلم : “ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به”. فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه فقال: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم}، قال مالك: تميل، {ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه} أي في متسع منه داخلاً، بحيث لا تصيبهم، إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم، قاله ابن عباس، {ذلك من آيات اللّه} حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم، ولهذا قال تعالى: {ذلك من آيات اللّه} ثم قال: {من يهد اللّه فهو المهتد} أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم فإنه من هداه اللّه اهتدى، ومن أضله فلا هادي له.

18 – وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا

ذكر أنهم لما ضرب اللّه على آذانهم بالنوم، لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليهم البلى، وقوله تعالى: {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال}، قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين، قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض، وقوله: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} الوصيد الفناء، وقال ابن عباس: بالباب، قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم، كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، كما ورد في الصحيح، ولا صورة ولا جنب، وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن، وقوله تعالى: {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا} أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، والرحمة الواسعة.

19 – وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق

منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا

– 20 – إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا

يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم، وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً، وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم {كم لبثتم}؟ أي كم رقدتم؟ {قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ولهذا استدركوا فقالوا: {أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} أي أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم، فاللّه أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: {فابعثوا أحدكم بورقكم} أي فضتكم هذه، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها؛ فلهذا قالوا {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} أي مدينتكم التي خرجتم منها {فلينظر أيها أزكى طعاما} أي أطيب طعاماً، كقوله: {ما زكى منكم أحد أبداً}، وقوله: {قد أفلح من تزكى}، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره. وقوله {وليتلطف} أي في خروجه وإيابه، يقولون وليختف كل ما يقدر عليه، {ولا يشعرن} أي ولا يعلمن {بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} أي إن علموا بمكانكم {يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم} يعنون أصحاب دقيانوس، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونكم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوكم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا،

وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدينا ولا في الآخرة، ولهذا قال: {ولن تفلحوا إذا أبدا}.

21 – وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا

يقول تعالى {وكذلك أعثرنا عليهم}: أي أطلعنا عليهم الناس {ليعلموا أن وعد اللّه حق وأن الساعة لا ريب فيها} ذكر واحد من السلف، أنه قد حصل لأهل الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، فبعث اللّه أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك، وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه، تنكّر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة، وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه، ويقول إن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم، ويقولون لعل هذا وجد كنزاً، فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة، لعله وجدها من كنز، وممن أنت؟ فجعل يقول أنا من هذه البلدة، وعهدي بها عشية أمس، وفيها دقيانوس فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف – ملك البلد وأهلها – حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل، فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى اللّه عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، وكان مسلماً فيما قيل، واسمه يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم دعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم اللّه عزَّ وجلَّ، فاللّه أعلم. وقوله{وكذلك أعثرنا عليهم}: أي كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {ليعلموا أن وعد اللّه حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم} أي في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل اللّه ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم {فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم} أي سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا}. حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين (أحدهما) : أنهم المسلمون منهم، و (الثاني) : أهل الشرك منهم، واللّه أعلم.

22 – سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا

يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، ولما ضعف القولين الأولين (القائلون بالثلاثة: اليهود، والقائلون بالخمسة: النصارى، كما ذكره السُّدي) بقوله {رجما بالغيب} أي قولاً بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله {وثامنهم كلبهم}، فدل على صحته وأنه هو الواقع في نفس الأمر، وقوله: {قل ربي أعلم بعدتهم} إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى اللّه تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا، وقوله: {ما يعلمهم إلا قليل}: أي من الناس. قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى اللّه عزَّ وجلَّ، كانوا سبعة. وكذا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة. فكانوا ليلهم ونهارهم في عبادة اللّه، يبكون ويستغيثون باللّه. قال تعالى: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا} أي سهلاً هيناً، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه فائدة كبير فائدة، {ولا تستفت فيهم منهم أحدا}: أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب، أي من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك اللّه يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.

23 – ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا

– 24 – إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا

هذا إرشاد من اللّه تعالى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد إلى مشيئة اللّه عزَّ وجلَّ علام الغيوب، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على سبعين امرأة – وفي رواية مائة امرأة – تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل اللّه، فقيل له – وفي رواية قال له الملك: قل إن شاء اللّه، فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم – والذي نفسي بيده لو قال إن شاء اللّه لم يحنث وكان دركاً لحاجته”. وفي رواية: “ولقاتلوا في سبيل اللّه فرساناً أجمعون”. وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: “غداً أجيبكم”، فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً، وقوله، {واذكر ربك إذا نسيت}: قيل معناه إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له (قاله أبو العالية والحسن البصري)، وقال ابن عباس في الرجل يحلف، له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول {واذكر ربك إذا نسيت} ذلك، ومعنى قول ابن عباس أنه يستثنى ولو بعد سنة أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء اللّه وذكر ولو بعد سنة فالسنة له أن يقول ذلك ليكون آتياً بسنة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث. قاله ابن جرير رحمه اللّه ونص على ذلك، لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه اللّه هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه واللّه أعلم. وقال عكرمة {واذكر ربك إذا نسيت}: إذا غضبت. وقال الطبراني، عن ابن عباس في قوله {واذكر ربك إذا نسيت} أن تقول إن شاء اللّه. وروى الطبراني أيضاً عنه استثن إذا ذكرت، وقال هي خاصة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه، ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو أن يكون اللّه تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر اللّه تعالى، لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} وذكر اللّه تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكرُ اللّه تعالى سبب للذكر، ولهذا قال: {واذكر ربك إذا نسيت}. وقوله: {وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل اللّه تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك.

25 – ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا

– 26 – قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا

هذا خبر من اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم، بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم اللّه، أعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية. وهي ثلثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلثمائة وازدادوا تسعاً، وقوله: {قل اللّه أعلم بما لبثوا} أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك على في ذلك وتوقيف من اللّه تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا {اللّه أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض} أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه (هذا قول جمهور المفسرين من السلف والخلف، وقال قتادة في قوله: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين} أنه قول أهل الكتاب، وقد رده اللّه تعالى بقوله: {اللّه أعلم بما لبثوا}، والظاهر أنه إخبار من اللّه لا حكاية عنهم كما قال ابن جرير). وقوله: {أبصر به وأسمع} أي إنه لبصير بهم سميع لهم، قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح كأنه قيل ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام: ما أبصر اللّه لكل موجود وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. ثم روي عن قتادة في قوله {أبصر به وأسمع}: فلا أحد أبصر من اللّه ولا أسمع.

وقوله {ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا} أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير، ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس.

27 – واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا

– 28 – واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا

يقول تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس، {لا مبدل لكلماته} أي لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل، وقوله: {ولن تجد من دونه ملتحدا} قال مجاهد: {ملتحدا} ملجأ، وعن قتادة: ولياً ولا مولى، قال ابن جرير: يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، فإنه لا ملجأ لك من اللّه كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}، وقوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} أي اجلس مع الذين يذكرون اللّه ويحمدونه وييسبحونه ويكبرونه بكرة وعشياً، من عباد اللّه، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه اللّه عن ذلك، فقال: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الآية. عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى اللّه عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما شاء اللّه أن يقع، فحدث نفسه فأنزل اللّه عزَّ وجلّ:َ {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} (أخرجه مسلم في صحيحه).

وعن أنَس بن مالك رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: “ما من قوم اجتمعوا يذكرون اللّه لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات” (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال الطبراني، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف، قال: نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في بعض أبياته: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الآية، فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون اللّه تعالى، منهم ثائر الرأس وجاف الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلسمعهم، وقال: “الحمد للّه الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم”، وقوله: {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة، {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، {وكان أمره فرطا} أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعاً له ولا محباً لطريقته، ولا تغبطه، بما هو فيه، كما قال: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى}.

29 – وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا

يقول تعالى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم : قل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم، هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال: {إنا أعتدنا} أي أرصدنا {للظالمين} وهم الكافرون باللّه ورسوله وكتابه {نارا أحاط بهم سرادقها} أي سورها، وعن أبي سعيد الخدري، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة” (أخرجه أحمد والترمذي في صفة النار وابن جرير في تفسيره). وقال ابن عباس {أحاط بهم سرادقها} قال: حائط من نار، وقوله: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} الآية، قال ابن عباس: المهل الماء الغليظ، مثل دردي الزيت، وقال مجاهد: هو كالدم والقيح، وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حره، وقال الضحّاك: ماء جهنم وهي سوداء وأهلها سود، وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار، ولهذا قال: {يشوي الوجوه}: أي من حره، إذا الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه، حتى تسقط جلدة وجهه فيه، كما جاء في الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “ماء كالمهل، قال: كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه” (أخرجه أحمد والترمذي). وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله {ويسقى من ماء صديد يتجرعه} قال: “يقرب إليه فيتكرهه، فإذا قرب منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه، يقول اللّه تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب}” (أخرجه عبد اللّه بن المبارك عن أبي أمامة مرفوعاً). وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقزم، فيأكلون منها فاجتثت جلود وجوههم، فلو أن ماراً مر بهم لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود، ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة {بئس الشراب} أي بئس هذا الشراب، كما قال في الآية الأخرى: {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}، وقال تعالى: {تسقى من عين آنية} أي حازة، كما قال تعالى: {وبين حميم آن} {وساءت مرتفقا} أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق، كما قال في الآية الأخرى {إنها ساءت مستقرا ومقاما}.

30 – إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا

– 31 – أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا

لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلهم جنات عدن، والعدن الإقامة {تجري من تحتهم الأنهار} أي من تحت غرفهم ومنازلهم، قال فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي} الآية. {يحلون} أي من الحلية {فيها من أساور من ذهب} وقال في المكان الآخر {ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} وفصّله ههنا فقال: {ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق} فالسندس ثياب رقاق كالقمصان وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج، وفيه بريق. وقوله: {متكئين فيها على الأرائك} الإتكاء قيل: الاضطجاع، وقيل: التربع في الجلوس، وهو أسبه بالمراد ههنا – ومنه الحديث الصحيح: “أما أنا فلا آكل متكئاً”، والأرائك جمع أريكة وهي السرير تحت الحجلة، عن قتادة {على الأرائك} قال: هي الحجال، وقال غيره: السرر في الحجال، وقوله {نعم الثواب وحسنت مرتفقا}: أي الجنة ثواباً على أعمالهم، {وحسنت مرتفقا} أي حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً،

كما قال في النار: {بئس الشراب وساءت مرتفقا}، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: {إنها ساءت مستقرا ومقاما}، ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: {خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما}.

32 – واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا

– 33 – كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا

– 34 – وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا

– 35 – ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا

– 36 – وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا

يقول تعالى بعد ذكره المشركين، المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم مثلاً برجلين، جعل اللّه لأحدهما جنتين، أي بساتين من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة (نقل السهيلي: عن محمد ابن الحسن المقري: اسم الخيَّر من الرجلين (تمليخا) واسم الآخر (فوطيس) وأنهما كانا شريكين، ثم اقتسما المال، فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيداً بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثياباً وكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاماً وأطعم الجياع، وبني أيضاً مساجد، وفعل خيراً – وأما الآخر: فنكح بماله نساء ذات يسار، واشترى دواب وبقراً فاستنتجها فنمت له نماء مفرطاً، واتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى. وأدركت الأول الحاجة فأراد أن يستأجر نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت إلى شريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح لي، فجاء فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب فلما دخل عليه وعرفه سأله حاجته، قال: ألم أكن قاسمتك المال شطرين، فما صنعت بمالك؟ قال: اشتريت به من اللّه، ما هو خير وأبقى. قال: أئنك لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة، وما أراك إلا سفيهاً، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان. أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن المال؟ وذلك أني كسبت وسفهت أنت، أخرج عني. ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره اللّه في القرآن من الإحاطة بثمرها وذهابها أصلاً. وفي عجائب الكرماني، قيل: كانا أخوين في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن اسمه (تمليخا) وقيل: (يهوذا)، والآخر كافر اسمه (نطروس) وهما المذكروان في سورة الصافات {قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين} الآية). ولهذا قال: {كلتا الجنتين آتت أكلها} أي أخرجت ثمرها {ولم تظلم منه شيئا} أي لم تنقص منه شيئاً {وفجرنا خلالهما نهرا} أي والأنهار متفرقة ههنا وههنا {وكان له ثمر} قيل، المراد به المال، وقيل: الثمار، وهو أظهر ههنا، {فقال} أي صاحب هاتين الجنتين {لصاحبه وهو يحاوره} أي يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس {أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} أي أكثر خدماً وحشماً وولداً، قال قتادة: تلك واللّه أمنية الفاجر، كثرة المال، وعزة النفر. وقوله: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه} أي بكفره وتمرده وتجبره وإنكاره المعاد، {قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا} وذلك اغترار منه، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف، وذلك لقلة عقله وضعف يقينه باللّه وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، ولهذا قال: {وما أظن الساعة قائمة} أي كائنة، {ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} أي ولئن كان معاد ورجعة إلى اللّه ليكوننَّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى}، وقال: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا}.

37 – قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا

– 38 – لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا

– 39 – ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا

– 40 – فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا

– 41 – أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا

يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر باللّه والاغترار: {أكفرت بالذي خلقك من تراب}، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه، وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم} الآية، أي كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، ولهذا قال المؤمن {لكنَّ هو اللّه ربي}: أي لكن لا أقول بمقالتك بل أعترف للّه بالواحدنية والربوبية، {ولا أشرك بربي أحدا} أي بل هو اللّه المعبود وحده لا شريك له، ثم قال: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله، لا قوة إلا باللّه إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا}، هذا تخصيص وحث على ذلك، أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت اللّه على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه، ولهذا قال بعض السلف من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع عن أنَس رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “ما أنعم اللّه على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه، فيرى فيه آفة دون الموت (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي). وكان يتأول هذه الآية: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه}، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له: “ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا باللّه”.؟

وقال أبو هريرة، قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟” قال، قلت: فداك أبي وأمي، قال: “أن تقول لا قوة إلا باللّه”. قال أبو بلخ وأحسب أنه قال: “فإن اللّه يقول أسلم عبدي واستسلم” (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله: {فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك} أي في الدار الآخرة، {ويرسل عليها} أي على جنتك في الدينا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى {حسبانا من السماء}، قال ابن عباس والضحّاك: أي عذاباً من السماء، والظاهر أنه مطر عظيم مزعج، يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال: {فتصبح صعيدا زلقا}، أي بلقعاً تراباً أملس، لا يثبت فيه قدم. وقال ابن عباس: كالجرز الذي لا ينبت شيئاً، وقوله: {أو يصبح ماؤها غورا} أي غائراً في الأرض وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض. فالغائر يطلب أسفلها، كما قال تعالى: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} أي جار وسائح، وقال ههنا: {أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا}، والغور مصدر. بمعنى غائر، وهو أبلغ منه كما قال الشاعر:

تظل جياده نوحاً عليه * تقلده أعنتها صفوفاً

بمعنى نائحات عليه.

42 – وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا

– 43 – ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا

– 44 – هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا

يقول تعالى: {وأحيط بثمره} بأمواله وبثماره ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن، من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن اللّه عزّ وجلّ، {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها}، وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها، {ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا * ولم تكن له فئة} أي عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز {ينصرونه من دون اللّه وما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق} أي المولاة للّه، أي هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى اللّه وإلى مولاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وكفرنا بما كنا به مشركين}. وكقوله إخباراً عن فرعون {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}، ومنهم من كسر الواو من {الوِلاية} أي هنالك الحكم للّه الحق، كقوله: {ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق} الآية. ولهذا قال تعالى: {هو خير ثوابا}: أي جزاء {وخير عقبا} أي الأعمال التي تكون للّه عزَّ وجلَّ ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير.

45 – واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا

– 46 – المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا

يقول تعالى: {واضرب} يا محمد للناس {مثل الحياة الدنيا} في زوالها وفنائها وانقضائها، {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض} أي ما فيها من الحب، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور، والنضرة، ثم بعد هذا كله {أصبح هشيما} يابساً {تذروه الرياح} أي تفرقه وتطرحه ذات

اليمين وذات الشمال، {وكان اللّه على كل شيء مقتدرا} أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال، وكثيراً ما يضرب اللّه مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما قال تعالى في سورة يونس: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام} الآية، وقال في سورة الحديد: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته} الآية. وفي الحديث الصحيح: “الدنيا خضرة حلوة”. وقوله: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} كقوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب} الآية. وقال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة واللّه عنده أجر عظيم}: أي الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم والشفقة المفرطة عليهم، ولهذا قال: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}، قال ابن عباس وسعيد ابن جبير، وغير واحد من السلف: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس. وقال ابن عباس: {الباقيات الصالحات}: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر، وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن {الباقيات الصالحات} ما هي؟ فقال: هي لا إله إلا اللّه، وسبحان اللّه، والحمد للّه، واللّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم. وروي عن سعيد بن المسيب قال: الباقيات الصالحات (سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه) وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات، فقلت: الصلاة والصيام، فقال: لم تصب، فقلت: الزكاة والحج، فقال: لم تصب، ولكهن الكلمات الخمس: لا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، وسبحان اللّه، والحمد للّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه. عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر هنّ الباقيات الصالحات” (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة). وفي الحديث: “إما أنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، ألا وإن سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر من الباقيات الصالحات” (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقال ابن عباس قوله {والباقيات الصالحات} قال: هي ذكر اللّه، قول: لا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، وسبحان اللّه والحمد للّه، وتبارك اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه، وأستغفر اللّه، وصلى اللّه على رسول اللّه، والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أعمال الحسنات، وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض، وعنه: هي الكلام الطيب، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها، واختاره ابن جرير رحمه اللّه.

47 – ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا

– 48 – وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا

– 49 – ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا

يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: {يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا}: أي تذهب من أماكنها وتزول كما قال تعالى: {ويسألونك عن الجبال قل ينسفها ربي نسفا}، يذكر تعالى أنه تذهب الجبال وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض قاعاً صفصفاً، أي سطحاً مستوياً لا عوج فيه ولا أمتاً، أي لا وادي ولا جبل. ولهذا قال تعالى: {وترى الأرض بارزة} أي بادية ظاهرة، ليس فيها معلم لأحد ولا مكان يواري أحداً، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة {وترى الأرض بارزة}: لا حجر فيها ولا غيابة، وقال قتادة: لا بناء ولا شجر، وقوله: {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} أي وجمعناهم الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً. كما قال: {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}، وقال: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}، وقوله: {وعرضوا على ربك صفا} يحتمل أن يكون المراد أم جميع الخلائق يقومون بين يدي اللّه صفاً واحداً، ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً صفوفاً، كما قال: {وجاء ربك والملك صفا صفا}، وقوله: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم: {بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا} أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن. وقوله: {ووضع الكتاب} أي كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير، {فترى المجرمين مشفقين مما فيه} أي من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة، {ويقولون يا ويلتنا} أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا، {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} أي لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر، إلا أحصاها أي ضبطها وحفظها، وقوله: {ووجدوا ما عملوا حاضرا} أي من خير وشر، كما قال تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا} الآية، وقال تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} وفي الحديث: “يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند

أسته بقدر غدرته، يقال هذه غدرة فلان بن فلان” (أخرجاه في الصحيحين). وقوله: {ولا يظلم ربك أحدا} أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً ولا يظلم أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: {إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} الآية، وقال: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً – إلى قوله – حاسبين} والآيات في هذا كثيرة.

روى الإمام أحمد، عن جابر بن عبد اللّه يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من النبي صلى اللّه عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا (عبد اللّه بن أنيس)، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد اللّه؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: “يحشر اللّه عزَّ وجلَّ الناس يوم القيامة – أو قال العباد – عراة غرلاً بهماً”. قلت: وما بهماً؟ قال: “ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعْدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقضيه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقضيه منه، حتى اللطمة قال: قلنا، كيف وإنما نأتي اللّه عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلاً بهماً؟ قال: “بالحسنات والسيئات” (أخرجه الإمام أحمد في المسند).

50 – وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا

يقول تعالى منبهاً بني آدم على عدواة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعاً لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، فقال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة} أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة {اسجدوا لآدم} أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}، وقوله: {فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} أي خانه أصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم: (خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) (أخرجه مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها مرفوعاً). ونبَّه تعالى ههنا على أنه من الجن، أي على أنه خلق من نار كما قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}، قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن. كما أنّ آدم عليه السلام أصل البشر (رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه). وقوله: {ففسق عن أمر ربه} أي فخرج عن طاعة اللّه فإن الفسق هو الخروج، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها، وفسقت الفأرة من جحرها، إذا خرجت منه للعيث والفساد، ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمت اتبعه وأطاعه {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} أي بدلاً عني، ولهذا قال: {بئس للظالمين بدلا}، وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها، ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون – إلى قوله – أفلم تكونوا تعقلون}.

51 – ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا

يقول تعالى هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني، عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً، ولا أشهدتهم خلق السماوات والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين، يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها وحدي، وليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا نظير، كما قال: {قل ادعو الذين زعمتم من دون اللّه لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}، ولهذا قال: {وما كنت متخذ المضلين عضدا} قال مالك: أعواناً.

52 – ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا

– 53 – ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا

يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة، على رؤوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً {نادوا شركائي الذين زعمتم} أي في دار الدنيا، ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه، كما قال تعالى: {وما نرى معكم من شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون}، وقوله: {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم}، كما قال: {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} الآية، وقال: {ومن أضل ممن يدعو من دون اللّه من لا يستجيب له}، وقال تعالى: {واتخذوا من دون اللّه آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا}، وقوله: {وجعلنا بينهم موبقا} قال ابن عباس: مهلكاً، وقال قتادة: موبقاً وادياً في جهنم. وقال ابن جرير، عن أنَس بن مالك في قوله تعالى: {وجعلنا بينهم موبقا} قال: واد في جهنم من قيح ودم، وقال الحسن البصري: موبقاً: عداوة، والظاهر من السياق ههنا أنه المهلك، ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره، والمعنى أن اللّه تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير، قال تعالى: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} وقال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم}، وقوله: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا} أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وقوله: {ولم يجدوا عنها مصرفا} أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها، ولا بد لهم منها. قال ابن جرير، عن أبي سعيد، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة”.

54 – ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا

ويقول تعالى: ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان وهذا الفرقان فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى اللّه وبصره لطريق النجاة. قال الإمام أحمد،

عن علي بن أبي طالب أخبره أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة، فقال: “ألا تصليان”، فقلت: يا رسول اللّه إنما أنفسنا بيد اللّه، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إلي شيئاً ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد).

55 – وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا

– 56 – وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا

يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذبيهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عياناً كما قال أولئك لنبيهم: {فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين}، وآخرون قالوا: {ائتنا بعذاب اللّه إن كنت من الصادقين}، وقالت قريش: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، ثم قال: {إلا أن تأتيهم سنة الأولين} من غشيانهم بالعذاب، وأخذهم عن آخرهم {أو يأتيهم العذاب قبلا} أي يرونه عياناً مواجهة ومقابلة، ثم قال تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين} أي مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم، ثم أخبر عن الكفار بأنهم {يجادلون بالباطل ليدحضوا به} أي ليضعفوا به الحق، الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم، {واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا} أي اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل، وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب، {هزوا}: أي سخروا منهم في ذلك وهو أشد التكذيب.

57 – ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا

– 58 – وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا

– 59 – وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا

يقول تعالى: وأي عباد اللّه أظلم ممن ذكّر بآيات اللّه فأعرض عنها، أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها، ولا ألقى إليها بالاً {ونسي ما قدمت يداه} أي من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة، {إنا جعلنا على قلوبهم} أي قلوب هؤلاء {أكنة} أي أغطية وغشاوة، {أن يفقهوه} أي لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، {وفي آذانهم وقرا}: أي صمماً معنوياً عن الرشاد، {وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا}، وقوله: {وربك الغفور ذو الرحمة}: أي ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة، {لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب}، كما قال: {ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}، وقال: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} والآيات في هذا كثيرة شتى، ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد وتضع كل ذات حمل حملها، ولهذا قال: {بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا}: أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد، ولا معدل، وقوله: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا} أي الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم {وجعلنا لمهلكهم موعدا}: أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين لا يزيد ولا ينقص، أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصبيكم ما أصابهم فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم فخافوا عذابي ونذري.

60 – وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا

– 61 – فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا

– 62 – فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا

– 63 – قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا

– 64 – قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا

– 65 – فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما

سبب قول موسى لفتاه ووهو (يوشع بن نون) هذا الكلام، أنه ذكر له عبداً من عباد اللّه بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك {لا أبرح}: أي لا أزال سائراً {حتى أبلغ مجمع البحرين} أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين، قال قتادة وغير واحد: هما (بحر فارس) مما يلي المشرق و (بحر الروم) مما يلي المغرب، وقال محمد بن كعب: مجمع البحرين عند طنجة، يعني في أقصى بلاد المغرب، فاللّه أعلم. وقوله: {أو أمضي حقبا} أي ولو أني أسير حقباً من الزمان، عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: الحقب ثمانون سنة، وقال مجاهد: سبعون خريفاً، وقال ابن عباس {أو أمضي حقبا} قال: دهراً، وقوله: {فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما} وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له متى فقدت الحوت فهو ثمة، فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده، ولهذا قال تعالى: {فاتخذ سبيله في البحر سربا} أي مثل السرب في الأرض، قال ابن عباس: صار أثره كأنه حجر، وقال قتادة: سرب من البحر حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فيه فجعل لا يسلك فيه طريقاً إلا صار ماء جامداً، وقوله: {فلما جاوزا}: أي المكان الذي نسيا الحوت فيه، {قال} موسى {لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا} أي المكان الذي جاوزا فيه المكان {نصبا} أي تعبا، {قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}، ولهذا قال: {واتخذ سبيله} أي طريقه {في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغي} أي هذا هو الذي نطلب {فارتدا} أي رجعا {على آثارهما} أي طريقهما {قصصا} أي يقصان آثار مشيهما، ويقفوان أثرهما {فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما}، وهذا هو الخضر عليه السلام، كما دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

روى البخاري، عن أُبي بن كعب رضي اللّه عنه، أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: “إن موسى قاك خطيباً في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب اللّه عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى اللّه إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين، هو أعلم منك. قال موسى: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله بمكتل وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك اللّه عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا}، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره اللّه به، قال له فتاه: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا}، قال فكان للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، فقال: {ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا} قال، فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً {قال إنك لن تستطيع معي صبرا} يا موسى، إني على علم من علم اللّه علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من اللّه علمكه اللّه لا أعلمه. فقال موسى: {ستجدني إن شاء اللّه صابرا ولا أعصي لك أمرا}، قال له الخضر: {فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نوال، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها! لقد جئت شيئاً إمراً {قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا}. قال وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله – فكانت الأولى من موسى نسياناً، قال، وجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم اللّه إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما هم يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه، فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: {أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا}، قال وهذه أشد من الأولى، {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض} أي مائلاً فقال الخضر بيده {فأقامه} فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا {لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا}”، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “وودنا أن موسى كان صبر حتى يقص اللّه علينا من خبرهما”. قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا}، وكان يقرأ: {وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين} (أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي اللّه عنهما) .

وروى الزهري: عن ابن عباس، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى، الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: “بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل، فقال: تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى اللّه إلى موسى: بلى عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل اللّه له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع: فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، قال موسى {ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا} فوجدا عبدنا خضراً، فكان من شأنهما ما قص اللّه في كتابه.

66 – قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا

– 67 – قال إنك لن تستطيع معي صبرا

– 68 – وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا

– 69 – قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا – 70 – قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا

يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام، لذلك الرجل العالم، وهو الخضر الذي خصه اللّه بعلم لم يطلع عليه موسى، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر. {قال له موسى هل أتبعك} سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم، وقوله {أتبعك} أي أصحبك وأرافقك، {على أن تعلمن مما علمت رشدا} أي مما علمك اللّه شيئاً أسترشد به في أمري من علم نافع، وعمل صالح، فعندها {قال} الخضر لموسى {إنك لن تستطيع معي صبرا} أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك، لأني على علم من علم اللّه ما علمكه اللّه، وأنت على علم من علم اللّه ما علمنيه اللّه، فكل منا مكلف بأمور من اللّه دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا} فأنا أعرف أنك ستنكر عليَّ ما أنت معذور فيه، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة، التي اطلعت أنا عليها دونك، {قال} أي موسى {ستجدني إن شاء اللّه صابرا} أي على ما أرى من أمورك، {ولا أعصي لك أمرا} أي ولا أخالفك في شيء، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام {قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء} أي ابتداء {حتى أحدث لك منه ذكرا} أي حتى أبدأك أنا به، قبل أن تسألني. عن ابن عباس قال: سال موسى عليه السلام ربه عزَّ وجلَّ فقال: أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: أي رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال، أي رب: هل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال، فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر اللّه وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلّم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك، قال: إنك لن تطيق صحبتي. قال: بلى، قال: فإن صحبتني {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}، قال فسار به في البحر، حتى انتهى إلى مجمع البحرين، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه، قال، وبعث اللّه الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقل ما رزأ، قال: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم اللّه كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء، وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس).

71 – فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا

– 72 – قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا

– 73 – قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا

يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه وهو الخضر، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول، يعني أجرة تكرمة للخضر، فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت، أي دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحاً من ألواحها، ثم رقعها، فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكراً عليه {أخرقتها لتغرق أهلها} وهذه اللام لام العاقبة. لا لام التعليل. كما قال الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب

{لقد جئت شيئا إمرا} قال مجاهد: منكراً، وقال قتادة: عجباً، فعندها قال له الخضر مذكراً بما تقدم من الشرط {ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا}، يعني وهذا الصنيع فعلته قصداً، وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبراً، ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت، {قال} أي موسى {لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا}: أي لا تضيّق علي ولا تشدد علي، ولهذا تقدم في الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “كانت الأولى من موسى نسياناً”.

74 – فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا

– 75 – قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا

– 76 – قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا

يقول تعالى {فانطلقا} أي بعد ذلك {حتى إذا لقيا غلاما فقتله}، وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم فقتله، وروي أنه اجتز رأسه، وقيل رضخه بحجر، وفي رواية اقتلعه بيده، واللّه أعلم. فلما شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال {أقتلت نفسا زكية}: أي صغيرة، لم تعمل الحنث، ولا عملت إثماً بعد، فقتلته {بغير نفس}: أي بغير مستند لقتله {لقد جئت شيئا نكرا}: أي ظاهر النكارة {قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} فأكد أيضاً في التذكار بالشرط الأول، فلهذا قال له موسى {إن سألتك عن شيء بعدها}: أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة {فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا}: أي قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة، قال ابن جرير، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب، قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: “رحمة اللّه علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، لكنه قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً”.

77 – فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا

– 78 – قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا

يقول تعالى مخبراً عنهما؛ إنهما {انطلقا} بعد المرتين الأوليين {حتى إذا أتيا أهل قرية}، روي عن ابن سيرين أنها الإيكة، وفي الحديث: “حتى إذا أتيا أهل قرية لئاماً” أي بخلاء؛ {فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض} إسناد الإرادة ههنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة؛ فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل؛ والانقضاض هو السقوط، وقوله: {فأقامه} أي فرده إلى حالة الاستقامة، وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله، وهذا خارق، فعند ذلك قال موسى له {لو شئت لاتخذت عليه أجرا} أي لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجاناً {قال هذا فراق بيني وبينك}، أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك، {سأنبئك بتأويل} أي بتفسير {ما لم تستطع عليه صبرا}.

79 – أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا

هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر اللّه الخضر عليه السلام على حكمة باطنة، فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها، لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة {يأخذ كل سفينة} صالحة أي جيدة {غصبا} فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل إنهم أيتام، وروى ابن جريج، أن اسم ذلك الملك، (هدد ابن بدد)، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.

80 – وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا

– 81 – فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما

عن أُبي بن كعب، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: “الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً” (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس عن أبي بن كعب)، ولهذا قال: {فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا} أي يحملهما حبه على متابعته الكفر، قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء اللّه فإن قضاء اللّه للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب، وصح في الحديث: “لا يقضي اللّه لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له”، وقال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}، وقوله: {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما} أي ولداً أزكى من هذا، وهما أرحم به منه، وقال قتادة: أبر بوالديه، وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم، قاله ابن جريج.

82 – وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا

في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة، لأنه قال أولاً {حتى إذا أتيا أهل قرية}، وقال ههنا: {فكان لغلامين يتيمين في المدينة} (قال السيهلي في الغلامين اليتيمين: هما أصرم وصريم ابنا كاشح، والأب الصالح الذي حفظ كنزهما من أجله كان بينهما وبينه سبعة آباء، وقيل عشرة، ولم يكونا ابنيه من صلبه فيما ذكر عن ابن عباس، وذكر السيوطي: أن اسم الملك (هدد بن ندد) واسم أبوي الغلام المقتول (أبرأ) وأمه (سهواً) وقد أبدلهما اللّه خيراً منه بجارية ولدت نبياً كان بعد موسى اسمه (شمعون) )، كما قال تعالى: فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك} {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} يعني مكة والطائف، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة: كان تحته مال مدفون لهما، وهو ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير رحمه اللّه، وقال ابن عباس: كان تحته كنز علم، وعن الحسن البصري أنه قال: لوح من ذهب مكتوب فيه: “بسم اللّه الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه” (أخرجه ابن جرير في تفسيره عن الحسن البصري، وورد في حديث مرفوع رواه الحافظ البزار عن أبي ذر بمثله)، وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجاً، وهذا الذي ذكر – وإن صح – لا ينافي قول عكرمة إنه كان مالاً، لأنهم ذكروا أنه كان لوحاً من ذهب، وفيه مال جزيل أكثر، كان مودعاً فيه علم وهو حكم ومواعظ واللّه أعلم.

وقوله تعالى: {وكان أبوهما صالحا} فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر

عينه بهم، كما جاء في القرآن، ووردت به السنّة، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وتقدم أنه كان الأب السابع فاللّه أعلم. وقوله: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما} ههنا أسند الإرادة إلى اللّه تعالى، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا اللّه، وقال في الغلام: {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة} وقال في السفينة: {فأردت أن أعيبها} فاللّه أعلم. وقوله تعالى: {رحمة من ربك وما فعلته عن أمري} أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو رحمة اللّه بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، وما فعلته عن أمري، لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله: {فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه

من لدنا علما}، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً بل كان ولياً، فاللّه أعلم. وحكي في كونه باقياً إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولان، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه، ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد}، وبقول النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر: “اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض”، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه، ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع

الثقلين الجن والإنس، وقد قال: “لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي”، وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف، إلى غير ذلك من الدلائل (أخرجه البخاري وأحمد ورواه أيضاً عبد الرزاق).

وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: “إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء” (الراجح قول أهل الحديث بموت الخضر للأدلة المذكورة) والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، وقيل المراد بذلك وجه الأرض. وقوله: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له بينه ووضحه وأزال المشكل قال: {تسطع} وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً، فقال: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال: {فما اسطاعوا أن يظهروه} وهو الصعود إلى أعلاه {وما استطاعوا له نقبا} وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظاً ومعنى واللّه أعلم. فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر، وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها، أنه (يوشع بن نون) وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام.

83 – ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا

– 84 – إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا

يقول تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم {ويسألونك} يا محمد {عن ذي القرنين} أي عن خبره، وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب، يسألون منهم ما يمتحون به النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية ما يدري ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف. وقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به، وتبعه، وكان وزيره الخضر عليه السلام، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب (البداية والنهاية) بما فيه كفاية والحمد للّه. وقال بعض أهل الكتاب: سمّي ذا القرنين لأنه ملك الروم وفارس، وقال بعضهم كان في رأسه شبه القرنين. وقال سفيان الثوري، عن أبي الطفيل: سئل علي رضي اللّه عنه عن ذي القرنين فقال: كان عبداً ناصحاً للّه فناصحه، دعا قومه للّه فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين، ويقال إنه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب. وقوله: {إنا مكنا له في الأرض} أي أعطيناه ملكاً عظيماً، ممكناً فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحضارات، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، وقوله: {وآتيناه من كل شيء سببا}، قال ابن عباس: يعني علماً (وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسُّدي وقتادة والضحّاك وغيرهم)، وقال قتادة: منازل الأرض وأعلامها، وقال عبد الرحمن بن زيد، تعليم الألسنة، قال: كان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم، وعن حبيب بن حماد قال: كنت عند علي رضي اللّه عنه، وسأله رجل عن ذي القرنين، كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال: سبحان اللّه سخّر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد (ذكره الضياء المقدسي عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماد).

85 – فأتبع سببا

– 86 – حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا

– 87 – قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا

– 88 – وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا

قال ابن عباس {فأتبع سببا}: يعني بالسبب المنزل. وقال مجاهد {فأتبع سببا}: منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وقال قتادة: أي اتبع منازل الأرض ومعالمها. وقال سعيد بن جبير: علماً، وقال مطر: معالم وآثار كانت قبل ذلك. وقوله: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس} أي فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه، فشيء لا حقيقة له، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاق زنادقتهم وكذبهم، وقوله {وجدها تغرب في عين حمئة}: أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين، كما قال تعالى {إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون}: أي من طين أملس، وقد تقدم بيانه. وقال ابن جرير: كان ابن عباس يقول {في عين حمأة} ثم فسرها ذات حمأة، قال نافع: وسئل عنها كعب الأحبار فقال: أنتم أعلم بالقرآن مني لكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء. وبه قال مجاهد وغير واحد. وعن أُبي بن كعب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أقرأه حمئة، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس وجدها تغرب في عين حامية يعني حارة. وكذا قال الحسن البصري، وقال ابن جرير: والصواب أنهما قراءتان مشهورتان، وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب، ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة في ماء وطين أسود كما قال كعب الأحبار وغيره.

وقوله تعالى: {ووجد عندها قوما}: أي أُمّة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمّة عظيمة من بني آدم (قال السهيلي: هم أهل جابرص، ويقال لها بالسريانية: جرجيا يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح)، وقوله: {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} معنى هذا أن اللّه تعالى مكَّنه منهم، وحكَّمه فيهم وأظفره بهم، وخيّره إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منَّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه، فيما أبداه عدله وبيانه في قوله: {أما من ظلم} أي استمر على كفره وشركه بربه {فسوف نعذبه}، قال قتادة: بالقتل، وقال السدي: كان يحمي لهم النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا. وقال وهب ابن منبه: كان يسلط الظلمة فتدخل بيوتهم، وتغشاهم من جميع جهاتهم، واللّه أعلم. وقوله {ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا} أي شديداً بلغياً وجيعاً أليماً، وفي هذا إثبات المعاد و الجزاء. وقوله: {وأما من آمن} أي تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة اللّه وحده لا شريك له {فله جزاء الحسنى} أي في الدار الآخرة عند اللّه عزَّ وجلَّ، {وسنقول له من أمرنا يسرا} قال مجاهد: معروفاً.

89 – ثم أتبع سببا

– 90 – حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا

– 91 – كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا

يقول تعالى: ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها، وكان كلما مرّ بأُمّة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم. وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وستمائة سنة يجوب الأرض، طولها والعرض، حتى بلغ المشارق والمغارب، ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال تعالى: {وجدها تطلع على قوم} أي أمة {لم نجعل لهم من دونها سترا} أي ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس، قال سعيد بن جبير: كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك. وقال الحسن في قوله اللّه تعالى: {لم نجعل لهم من دونها سترا} قال: إن أرضهم لا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم (أخرجه أبو داود الطيالسي عن الحسن البصري)، وقال قتادة: ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وقال ابن جرير: لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل. وقوله: {كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا} قال مجاهد والسدي: علماً، أي نحن مطلعون على جميع أحواله، وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى {لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}.

92 – ثم أتبع سببا

– 93 – حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا

– 94 – قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا

– 95 – قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما

– 96 – آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا

يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين {ثم أتبع سببا} أي ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض، حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة، يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيها فساداً ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في الصحيحين: “أن اللّه تعالى يقول: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث في النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها، فقال: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثّرتاه، يأجوج ومأجوج” (أخرجه البخاري ومسلم). وفي مسند الإمام أحمد، عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: “ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك”، قال بعض العلماء: هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، وقال، إنما سمي هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة، وقد ذكر ابن جرير ههنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم. وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، واللّه أعلم.

وقوله تعالى {وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا} أي لاستعجام كلامهم، وبعدهم عن الناس، {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا} قال ابن عباس: أجراً عظيماً، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينهم وبينهم سداً، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير {ما مكّني فيه ربي خير} أي إنّ الذي أعطاني اللّه من الملك والتمكين خيرٌ لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: {أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم} الآية. وهكذا قال ذو القرنين، الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني بقوة، أي بعملكم وآلات البناء {أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد} والزبر، جمع (زبرة) وهي القطعة منه (قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة) وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه {حتى إذا ساوى بين الصدفين} أي وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً (قال السيوطي عن الضحّاك: هما من قبل أرمينية وآذربيجان أخرجه ابن أبي حاتم) {قال انفخوا} أي أجّج عليه النار، حتى إذا صار كله ناراً {قال آتوني أفرغ عليه قطرا} قال ابن عباس والسدي: هو النحاس (وهو قول مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة)، زاد بعضهم المذاب، ويستشهد بقوله تعالى: {وأسلنا له عين القطر}، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً قال: يا رسول اللّه قد رأيت سد يأجوج ومأجوج. قال: “انعته لي”، قال كالبرد المحبّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، قال: “قد رأيته” (أخرجه ابن جرير وهو حديث مرسل)، وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتونه له إذا رجعوا، فتوصلوا من بلاد إلى بلاد،

ومن ملك إلى ملك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيمة، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك، وأن عنده حرساً من الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شاهق، لا يستطاع، ولا ما حوله من الجبال، ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالاً وعجائب، ثم قال تعالى:

97 – فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا

– 98 – قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا

– 99 – وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا

يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج، إنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد، ولا قدروا على نقبه من أسفله، ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه، فقال: {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا}، وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: “يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم، ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد اللّه أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء اللّه، فستثني فيعودون إليه، وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه، ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث اللّه عليهم نغفاً في رقابهم فيقتلهم بها، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكر شكراً من لحومهم ودمائهم” (وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي، وقال الترمذي: إسناده جيد قوي، واختار ابنكثير أن يكون موقوفاً)، ففي رفعه نكارة، لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته، وشدته ويؤيد ما قلناه، من أنهم لم يتمكنوا من نقبه، ومن نكارة هذا المرفوع، قول الإمام أحمد، عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت: استيقظ النبي صلى اللّه عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول: “لا إله إلا اللّه ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام”، قلت: يا رسول اللّه! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم إذا كثر الخبث”.

{قال هذا رحمة من ربي} أي لما بناه ذو القرنين {قال هذا رحمة من ربي}، أي بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلاً يمنعهم من العيث في الأرض والفساد {فإذا جاء وعد ربي} أي إذا اقترب الوعد الحق {جعله دكاء} أي ساواه بالأرض، تقول العرب: ناقة دكاء إذا كان ظهرها مستوياً لا سنام لها، وقال تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} أي مساوياً للأرض، وقال عكرمة في قوله {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء} قال: طريقاً كما كان، {وكان وعد ربي حقا} أي كائناً لا محالة. وقوله: {وتركنا بعضهم} أي الناس {يومئذ} أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس، ويفسدون على الناس أموالهم، ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي، في قوله: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} قال: ذاك حين يخرجون على الناس، وهذا كله قبل يوم القيامة، وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه عند قوله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق} الآية. وهكذا قال ههنا، {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} قال: هذا أول يوم القيامة، {ونفخ في الصور} على أثر ذلك {فجمعناهم جمعا}، وقال آخرون: بل المراد بقوله: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض}، قال: إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن، وقوله: {ونفخ في الصور}، والصور كما جاء في الحديث، قون ينفخ فيه، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وفي الحديث عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعاً: “كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، واستمع متى يؤمر”، قالوا: كيف نقول؟ قال: “قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل، على اللّه توكلنا”، وقوله: {فجمعناهم جمعا} أي أحضرنا الجميع للحساب {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}، {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا}.

100 – وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا

– 101 – الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا

– 102 – أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا

يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة: أنه يعرض عليهم جهنم، أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والجزن لهم، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك” (أخرجه مسلم عن ابن مسعود)، ثم قال مخبراً عنهم {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} أي تغافلوا وتعاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين}، وقال ههنا {وكانوا لا يستطيعون سمعا} أي لا يعقلون عن اللّه أمره ونهيه، ثم قال: {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء} أي اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك وينتفعون به {كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} ولهذا أخبر اللّه تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلاً.

103 – قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا

– 104 – الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

– 105 – أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا

– 106 – ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا

عن مصعب قال: سألت أبي، يعني سعد بن أبي وقاص، عن قول اللّه: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} أهم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى اللّه عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي اللّه عنه يسميهم بالفاسقين (أخرجه البخاري في صحيحه في باب التفسير)، وقال علي بن أبي طالب والضحّاك وغير واحد: هم الحرورية، ومعنى هذا عن علي رضي اللّه عنه، أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص، وإنما هي عامة في كل من عبد اللّه على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}، وقال تعالى: {والذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا}، وقال في هذه الآية الكريمة {قل هل ننبئكم} أي نخبركم {بالأخسرين أعمالا}، ثم فسرهم فقال: {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا} أي عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} أي يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون مون، وقوله: {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه}: أي جحدوا آيات اللّه في الدينا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله وكذبوا بالدار الآخرة، {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير، روى البخاري، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: “إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة – وقال – اقرأوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}”، وقال ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها”، قال قرأ {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}، عن عبد اللّه بن بريدة، عن أبيه قال: كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام على النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: “يا بريدة هذا ممن لا يقيم اللّه لهم يوم القيامة وزناً” (أخرجه الحافظ البزار)، وعن كعب قال: يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة، اقرأوا: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (أخرجه ابن جرير في تفسيره). وقوله: {ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا} أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم، واتخاذهم آيات اللّه ورسله هزواً استهزأوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب.

107 – إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا

– 108 – خالدين فيها لا يبغون عنها حولا

يخبر تعالى عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا باللّه ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، أن لهم جنات الفردوس، قال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الضحّاك: هو البستان الذي فيه شجر الأعناب، وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها، وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: “الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها” (أخرجه ابن جرير عن سمرة مرفوعاً). وفي الصحيحين: “إذا سألتم اللّه الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة”، وقوله تعالى: {نزلا} أي ضيافة فإن النزل الضيافة، وقوله: {خالدين فيها} أي مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبداً، {لا يبغون عنها حولا} أي لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر:

فحلّت سويدا القلب لا أنا باغياً * سواها، ولا عن حبها أتحول.

وفي قوله تعالى: {لا يبغون عنها حولا} تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً، ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً.

109 – قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا

يقول تعالى: قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات اللّه وحكمه وآياته الدالة عليه، لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك {ولو جئنا بمثله} أي بمثل البحر آخر ثم آخر، وهلم جراً، بحور تمده ويكتب بها لما نفدت كلمات اللّه، كما قال تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه إن اللّه عزيز حكيم}، وقال الربيع بن أنَس: إن مثل علم العباد كلهم في علم اللّه كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل اللّه ذلك: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} (أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال، قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: {ويسألونك عن الروح – إلى – وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}، وقال اليهود: أوتينا علما كثيراً أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فنزلت: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي} الآية) يقول: لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات اللّه، والشجر كله أقلام، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات اللّه قائمة لا يفنيها شيء، لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدينا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.

110 – قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا

يقول تعالى لرسوله محمد صلوات اللّه وسلامه عليه {قل} لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم {إنما أنا بشر مثلكم}، فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر، لولا ما أطلعني اللّه عليه، وإنما أخبركم {أنما إلهكم} الذي أدعوكم إلى عبادته {إله واحد} لا شريك له، {فمن كان يرجو لقاء ربه} أي ثوابه وجزاءه الصالح {فليعمل عملا صالحا} ما كان موافقاً لشرع اللّه، {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} وهو الذي يراد به وجه اللّه وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بدَّ أن يكون خالصاً للّه، صواباً على شريعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد روي عن طاووس قال، قال رجل: يا رسول اللّه! إني أقف المواقف أريد وجه اللّه، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئاً، حتى نزلت هذه الآية {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، وجاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد، فقال عبادة: ليس له شيء، إن اللّه تعالى يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي فيه.

وروى الإمام أحمد، عن شداد بن أوس رضي اللّه عنه أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال شيء سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأبكاني. سمعت رسول اللّه يقول: “أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية”، قلت: يا رسول اللّه! أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: “نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه” (أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه). (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يرويه عن اللّه عزَّ وجلَّ أنه قال: “أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك”. (حديث آخر): قال الإمام أحمد، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري، وكان من الصحابة أنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: “إذا جمع اللّه الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله للّه أحداً فليطلب ثوابه من عند غير اللّه، فإن اللّه أغنى الشركاء عن الشرك” (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه). (حديث آخر): عن أنَس رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “تعرض أعمال بني آدم بين يدي اللّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة، في صحف مختمة، فيقول اللّه: ألقوا هذا واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: يا رب، واللّه ما رأينا منه إلا خيراً، فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي” (أخرجه الحافظ أبو بكر البزار). وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عزَّ وجلَّ” (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي

التعليقات

  1. دائما متميزة في الاختيار
    سلمتي على روعه طرحك
    نترقب المزيد من جديدك الرائع
    دمتي ودام لنا روعة مواضيعك

    جزآكي الله خيرا

  2. بارك الله تعالى فيك …… وثقل ميزانك بما تفعله من
    مجهود في الدعوة لدين الله تعالى
    تقبل مني مرورا متواضعا
    وأسأل الله تعالى أن يجازيك علي عملك هذا خير الجزاء..
    لك جل تقديري واحترامي

  3. دائما متميز في الانتقاء
    سلمت على روعه طرحك
    نترقب المزيد من جديدك الرائع
    دمت ودام لنا روعه مواضيعك
    لكـ خالص احترامي

  4. طرح رائع ومفعم بالجمال والرقي..
    يعطيك العافيه على هذا الطرح..
    وسلمت اناملك المتألقه لروعة طرحها..
    تقديري لك..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *